كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد أباح الإسلام أيضًا الترهُّب والانقطاع للعبادة، لَكِن شريطة أن تكون في جَلْوة يعني: بين الناس، لا تعتزل حركة الحياة، إنما تعبَّد الله في كل حركة من حركات حياتك، وتجعل الله تعالى دائمًا في بالك ونُصْب عينيك في كُلِّ ما تأتي، وفي كل ما تدَع، إذن: هناك فَرْق بين مَنْ يعبد الله في خَلْوته، ومَنْ يعبد الله في جَلْوته.
لذلك سيدنا عمر- رضي الله عنه- قال عن الرجل الذي لازم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه يتكفّل به ويُنفق عليه، قال: أخوه أعبد منه. كيف؟
قالوا: لأنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة، حين تُخِلص النية فيها لله عز وجل. ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر، كلاهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته، ويحيا الحياة الكريمة، وهذا هدف الجميع من العمل، لَكِن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف لاستوى مع الكافر تمامًا.
إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره، المؤمن يفعل على قَدْر طاقته، لا على قَدْر حاجته، ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدَّق على مَنْ لا يقدر على الحركة الحياتية.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1- 4] هل يعني: مُؤدُّون فقط؟ لا، بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى، وفي نيته مَنْ لا يقدر على السَّعْي والعمل، فكأنه يُقبل على العمل ويجتهد فيه، وفي نيته أنْ يعمل شيئًا لله بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا ما يُميِّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر.
وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلاثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني، وكان مريضًا- رحمه الله ورضي الله عنه- وكان يسكن في حارة، وفضَّلنا أن نأخذ تاكسي يُوصِّلنا بدل أن نمشي في وَحْل الشتاء، وعند مدخل الحارة رفض سائق التاكسي الدخول وقال: إن أجرة التوصيل لا تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل، وبعد إلحاح وافق وأوصلنا إلى حيث نريد، فأعطيناه ضِعْف أجرته، لَكِني قبل أن أنصرف قلتُ له: أنت لماذا تعمل على هذا التاكسي ولماذا تتعب؟ قال: من أجل مصالحي ومصالح أولادي، فقلت له: وما يُضيرك إنْ زِدْتَ على ذلك وجعلْتَ في نيتك أنْ تُيسِّر بعملك هذا على الناس؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال: والله لا أردُّ راكبًا أبدًا.
ومعنى: {والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] لم يقل مؤدون؛ لأن {فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 4] تعني: أن نيتهم في الفعل أنْ يفعلوا على قَدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون منه.
إذن: حرَّم الإسلام الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة الإنسان فقال صلى الله عليه وسلم: «لا رهبانية في الإسلام» لأنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية عبادية، ومن هنا كان العمل عبادة.
وقد وضع العلماء شروطًا لمَنْ أراد الانقطاع للعبادة: أولها: ألاَّ يأخذ نفقته من أحد، بمعنى أن يعمل أولًا لِيُوفِّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه، وصدق إقبال حين قال:
لَيْسَ زُهْدًا تصوف من تقي ** فرَّ من غَمْرة الحيَاةِ بدين

إنما يُعرَفُ التصَوفُ في ال ** سُّوق بمالٍ ومَطْمعٍ وفُتُون

ثم يقول تعالى: {وَصَلَوَاتٌ } [الحج: 40] وهذه لليهود يُسمُّون مكان التعبد: صَالوتًا. لَكِن، لماذا لم يرتبها القران ترتيبًا زمنيًّا، فيقول: لهدمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا: لأن القران يُؤرِّخ للقريب منه فالأبعد.
{وَمَسَاجِدُ } [الحج: 40] وهذه للمسلمين {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا } [الحج: 40].
وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل {لَّهُدِّمَتْ } [الحج: 40] فهذا دليل على أنه لابد أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة، وإنْ جُعِلَتْ الأرض كلها لهم مسجدًّا وطَهُورًا، ومعنى ذلك أنْ تصلي في أيِّ بقعة من الأرض، وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها، وبذلك تكون الأرض مَحَلًا للعبادة ومَحَلًا لحركة الحياة وللعمل وللسَّعْي، فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مثلًا وتُصلِّي فيه، لَكِن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصِّص بعض أرضه ليكون بيتًا له تنقطع منه حركة الحياة كلها، ويُوقَف فقط لأمور العبادة.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بنى لله مسجدًّا ولو كمِفْحَصِ قَطَاةٍ بنى الله له بيتًا في الجنة».
فقوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ} {وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40] تدل على مكان خاص للعبادة وإلاَّ لو اعتُبرَتْ الأرض كلها مسجدًّا، فماذا تهدم؟
وعليه، فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة لا يُعتبر مسجدًّا، كأماكن الصلاة التي يتخذونها تحت العمارات السكنية، هذه ليست مساجد، والصلاة فيها كالصلاة في الشارع وفي البيت؛ لأن المسجد مكان وما يُبنى عليه مكين.
والمسجدية تعني: المكان من الأرض إلى السماء، بدليل أننا في بيت الله الحرام نصلي فوق سطح المسجد، ونتجه لجوِّ الكعبة، لا للكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن جَوَّ الكعبة إلى السماء كعبة، وكذلك لو كنا في مخابيء أو في مناجم تحت الأرض؛ لأن ما تحت الكعبة من الأرض كعبة. وكذلك في المسْعَى مَسْعَى.
إذن: المسجد ما حُكِر للعبادة، وخُصِّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه، وهذا لا يُمارس فيه عمل دنيوي ولا تُعقد فيه صفقة.. إلخ.
أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية، وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما فيها من هَرج ولَهْو، حلال وحرام، وطهارة ونجاسة، ومعاشرة زوجية.. إلخ. فهذا كله يتنافى مع المسجدية التي جعلها الله حِكْرًا للعبادة من الأرض إلى السماء. فلنُسَمِّ هذه الأماكن: مُصلّى. ولا نقول: مسجد.
ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيرًا } [الحج: 40] لأن ذِكْر الله في المساجد دائم لا ينقطع، ونحن لا نتحدث عن مسجد، ولا عن مساجد قُطْر من الأقطار، إنما المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لأقصى الغرب، ومن الشمال للجنوب.
ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق، وفي الزوال، وفي الغروب، وباعتبار فارق التوقيت في كل بلاد الله تجد أن ذِكْر الله دائم لا ينقطع أبدًا في ليل أو نهار، فأنت تُؤذِّن للصلاة، وغيرُك يقيم، وغيركما يصلي، أنت تصلي الظهر، وغيرك يصلي الصبح أو العصر، بل أنت في الركعة الأولى من الصبح، وغيرك في الركعة الثانية، أنت تركع وغيرك يسجد.
إذن: هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت، ودائرة في كل مكان من الأرض، فلا ينفكّ الكون ذاكرًا لله. أليس هذا ذِكْرًا كثيرًا؟ أليستْ كلمة الله أكبرُ دائرة على ألسنة الخلق لا تنتهي أبدًا؟
ثم لما كان دَفْع الله الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم، قال سبحانه: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [الحج: 40] فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه لا ينتهي، وإنْ كان بين حقٍّ لله وباطل حكم الله بأنه باطل لابد أن تنتهي بنُصْرة الحق، وغالبًا لا تطول هذه المعركة؛ لأن الحق دائمًا في حضانة الله، إنما تطول المعارك بين باطل وباطل، فليس أحدهما أَوْلَى بنُصْرة الله من الآخر، فيظل كل منهما يطحن في الآخر، وإنْ لم تكن حربًا ساخنة كانت حربًا باردة، لماذا؟ لأنه لا يوجد قويٌّ لا هوى له يستطيع أن يفصل فيها، وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة.
يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق، وهذه لا وجودَ لها؛ لأن الحق واحد في الوجود، فلا يمكن أنْ يحدث تصادم أبدًا بين أهل الحق.
والحق- تبارك وتعالى- في نُصْرته لأوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب، ويُهلك أعداءهم، لَكِن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر؛ لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة، فيقول سبحانه: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَا فِدَاءً حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولَكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [محمد: 4].
ومعنى {أَثْخَنتُمُوهُمْ } [محمد: 4] يعني: جعلتموهم لا يقدرون على الحركة {فَشُدُّواْ الوثاق } [محمد: 4] لا تُجهِزوا عليهم، ولا تقتلوهم، إنما شُدُّوا قيودهم واستأسِروهم، وهذه من رحمة الإسلام وآدابه في الحروب، فليس الهدف القتل وإزهاق الأرواح ثم {فَإِمَا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَا فِدَاءً } [محمد: 4] مَنًّا إنْ كان هناك تبادل للأسرى. فأنت تمنُّ وهو يمنُّ. والفداء أنْ يفدي نفسه.
وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقِّ في الإسلام، ونرد على هؤلاء الذين يحلو لهم اتهام الإسلام، ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لإقناع الناس بأن الإسلام ساهم في نِشْر الرقِّ والعبودية.
ونقول: لقد جاء الإسلام والرق موجود ومنتشر لم يُشرِّعه الإسلام، ولم يُوجِدْه بداية، حيث كانت أسباب الرق كثيرة، وأسباب الاستعباد متعددة: فَمنْ تحمّل دَيْنًا وعجز عن سدادة يُسْتعبد لصاحب الدين، ومَنْ عمل ذنبًا وخاف من عقوبته أخذوه عبدًا، ومَنْ اختطفه الأشرار في الطريق جعلوه عبدًا.. إلخ.
فلما جاء الإسلام عمل على سَدِّ منابع الرقِّ هذه، وجعل الرقَّ مقصورًا على الحرب المشروعة. ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلُّص من الرق القائم، حيث لم يكُنْ موجودًا من أبواب العتق إلا أرادة السيد في أنْ يعتق عبده، فأضاف الإسلام إلى هذا الباب أبوابًا أخرى، فجعل العتق كفارة لبعض الذنوب، وكفارة لليمين، وكفارة للظِّهار، وحثَّ على الصدقة في سبيل العتق، ومساعدة المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه.. إلخ.
فإذا لم تعتق عبدك، فلا أقل من أن تطعمه من طعامك، وتُلْبسه من ملبسك، ولا تُحمِّله ما لا يطيق، وإنْ حمَّلْته فأعِنْه، وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما هم إخوانكم».
ونلاحظ على الذين يعيبون على الإسلام مسألة الرقِّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرِّق والحرية، لَكِن لمقارنة هنا ليستْ كذلك، المقارنة هنا بين الرق والقتل؛ لأنه لا يُسترقّ إلا مَنْ قدر المسترقُّ عليه وتمكَّن منه في المعركة، وكان باستطاعته قَتْله، لَكِن رحمة الله بعباده منعتْ قتله، وأباحت أَخْذه رقيقًا، فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها حَقْن دم الآخر، ثم بعد انتهاء الحرب نحثُّ على عتقه، ونفتح له أبواب الحرية.
إذن: لا تقارن بين عبد وحر، إنما قارن بين العبودية والقتل: أيهما أقلّ ضررًا؟
لذلك قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 14- 15].
هذه نتائج سِتٌّ للأمر {قَاتِلُوهُمْ } [التوبة: 14] وجواب الأمر مجزوم بالسكون كما في {يُعذِّبْهم} ومجزوم بحذف حرف العلة كما في {وَيُخْزِهِم}، والخزي لأنهم كانوا مغترىن بقوتهم، ولديهم جبروت مفتعل، يظنون أَلاَّ يقدر عليهم أحد، وكذلك في: ينصركم، ويشف، ويذهب.
ثم قطع السياقُ الحكمَ السابق، واستأنف كلامًا جديدًا، وإنْ كان معطوفًا على ما قبله في اللفظ، وهذا مظهر من مظاهر الدقة في الأداء القرآني، ومَلْحَظ لرحمة الله تعالى حتى بالكفار، فقال تعالى: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاءُ } [التوبة: 15] هكذا بالرفع، لا بالجزم فقطع الفعل {يتوب} عما قبله؛ لأن الله تعالى لم يشأ أن يشرِّك بينهم حتى في جواب الأمر.
وحتى على اعتبار أنهم هُزِمُوا، وكُسِرت شوكتهم، وضاعتْ هيبتهم، لعلهم يفيقون لأنفسهم، ويعودون للحق، وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع الإيمان.
لَكِن، لماذا يتوب الله على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه؟ قالوا: لأنه سبحانه وتعالى ربهم وخالقهم، وهم عباده وعياله، وهو أرحم بهم، ومرادات الله في الخَلْق أن يكونوا جميعًا طائعين.
لذلك، يقول سبحانه في الحديث القدسي: «قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كسفًا على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك».
فالكون كله ناقم على الكافرين، متمرد على العصاة، مغتاظ منهم، فماذا قال الحق- تبارك وتعالى- لهم؟ قال سبحانه: «دعوني وخَلْقي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، فإنْ تابوا إلى، فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم».
نعود إلى قوله تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [الحج: 40] وما دام أن النصر من عند الله فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم، فلربك عز وجل جنود لا يعلمها إلا هو، ووسائل النصر وأنت في حضانة الله كثيرة تأتيك من حيث لا تحتسب وبأهْون الأسباب، أقلّها أن الله يُريكم أعداءكم قليلًا ويُكثِّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتَّ ذلك في عَضُدهم ويُرهبهم ويُزعزع معنوياتهم، وقد يحدث العكس، فيرى الكفار المؤمنين قليلًا فيجترئون عليهم، ويتقدمون، ثم تفاجئهم الحقيقة.
إذن: {وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هو } [المدثر: 31] فلا تُعوِّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك مع عدوك، دَعْكَ من هذه الحسابات، وما عليك إلا أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك، ثم تدع المجال لأسباب السماء.
وأقلُّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك، وهذه وحدها كافية، ويُرْوى أنهم في إحدى المعارك الإسلامية تغيرت رائحة أفواه المسلمين، وأحسُّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال، فأخرجوا السواك يُنظفِّون أسنانهم، ويُطيِّبون أفواههم، عندها قال الكفار: إنهم يسنُّون أسنانهم ليأكلونا، وقذف الله في قلوبهم الرعب من حيث لا يدرون.
ثم يقول تعالى: {إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] عزيز: يعني لا يُغلب، وما دام أن الله تعالى ينصر مَنْ نصره فلابد أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خارتْ القوى ومهما ضَعُفتْ، ألم يكُن المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين، لا يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار؟
ولما نزل قول الله تعالى وهم على هذه الحال: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] تعجب عمر بفراسته وعبقريته: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى حماية أنفسنا؟ فلما رأى يوم بدر قال: صدق الله {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
فما دام أن الله قوي عزيز فلابد أن ينصركم، وهذه مسألة محكوم بها أزلًا: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي } [المجادلة: 21].
فإذا تمَّتْ لكم الغَلَبة، فاعلموا أن لك دَوْرًا، أَلاَ وهو: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة }.
معنى: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض } [الحج: 41] جعلنا لهم سلطانًا وقوة وغَلَبة، فلا يَجترئ أحد عليهم أو يزحزحهم، وعليهم أنْ يعلموا أن الله ما مكَّنهم ونصرهم لذاتهم، وإنما ليقوموا بمهمة الإصلاح وينقوا الخلافة الإنسانية في الأرض من كُلِّ ما يُضعِف صلاحها أو يفسده.
لذلك، سيدنا سليمان عليه السلام كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد، فداخله شيء من الزهو، فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه، ثم سمع من البساط مَنْ يقول له: أُمِرْنا أن نطيعك ما أطعتَ الله.
والممكَّن في الأرض الذي أعطاه الله البأْس والقوة والسلطان، يستطيع أنْ يفرض على مجتمعه ما يشاء، حتى إنْ مُكِّن في الأرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له، ولو إلى حين.
فماذا يُناط بالمؤمن إنْ مُكِّن في الأرض؟
يقول تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة } [الحج: 41] ليكونوا دائمًا على ذكْر وولاء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لأنهم يترددون عليه سبحانه خَمْس مرات في اليوم والليلة.
{وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} [الحج: 41] فهذه أسس الصلاح في المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع.
{وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور} [الحج: 41] يعني: النهاية إلينا، وآخر المطاف عندنا، فمَن التزم هذه التوجيهات وأدَّى دوره المنُوط في مجتمعه، فبها ونِعْمتْ، ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة. اهـ.